ما أجمل الكتب التي تتحدث عن الكتب. وما أجمل أن نقرأ كتابًا يتناول سيرة واحدة من أكثر الروايات العربية إثارة للجدل: أولاد حارتنا لنجيب محفوظ.
في كتابه "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة"، يقدم لنا محمد شعير عملًا يرصد كواليس صناعة الرواية منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه محفوظ أنه يعمل عليها، مرورًا بنشرها في حلقات في صحيفة الأهرام، ثم نشرها لاحقًا في كتاب عن دار الآداب البيروتية.
هذا الكتاب لا يكتفي بقراءة الرواية الأدبية، بل يغوص في بانوراما المشهد السياسي والثقافي والديني في مصر وقتها: مثقفون يكتبون، شيوخ يعترضون، بعض القراء يشتكون، والأزهر يرفض رسميًا… حتى انتهت القصة بما يشبه “رضا” غير معلن بعد محاولة اغتيال محفوظ، والتي أعادت الرواية للأضواء.
اللافت في أسلوب شعير أنه يعتمد على أرشيف الصحف والمقابلات والوثائق، ليقدم ما يشبه رصدًا تاريخيًا للحراك الثقافي وحجم سلطة الدين على المشهد العام، وما تعرّض له محفوظ بسبب دفاعه عن الأدب النقدي بعيدًا عن التأويلات الدينية .
يقدم لنا شعير في 17 فصل نظرة على مجتمع أولاد حارتنا، المجتمع الذي أطلقت فيه هذه الرواية أيضا يستحق الرصد، من مثقفين وشيوخ وحتى مواطنين من القراء يكتبون لبريد الصحف والمجلات عن رد فعلهم تجاه فصول الرواية التي نشرت في حلقات في صحيفة الأهرام ، وبأسلوب صحفي ماتع يأخذنا شعير من أيدينا ليطلعنا على عالم ما قبل ولادة الرواية وخلالها وبعدها وما بينهم من مناوشات أدبية وصل لحد الحروب الجهرية ضد محفوظ.
أعتقد في بداية قرائتي لكتاب "أولاد حارتنا – سيرة الرواية المحرمة" أنه قراءة في كواليس الرواية الأشهر لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، لاكتشف بعد أول صفحات في الكتاب إنها أشبه بنظرة بانورامية على عالم (أولاد حارتنا) كما في الواقع، الكتاب أشبه برصد تاريخي لحالة الحراك الثقافي وقت إصدار الرواية، كما أن يرصد تعملق سلطة الدين على المشهد الثقافي حينها، و"استخدامه" للبطش بالمثقفين. الرواية كذلك ترصد مسيرة محفوظ في "حربه" من أجل نقد الرواية النقد الأدبي بعيدا عن المنظور الديني. ووسط أجواء هذا الصراع، بدت (أولاد حارتنا) كنزا سياسيا تتصارع عليه كل القوى السياسية، وتحاول توظيفه لمصلحتها الخاصة، صراع على المكشوف، تحالف بين اشيوخ والقوى السياسية اليمينة داخل السلطة الناصرية.
وكما ذكر شعير في آخر فصول روايته أنه :"عاش محفوظ، عصور سلاطين، وملوك، ورؤوساء، عاصر ثورات وانقلابات، وحروبا وطواعين، ومآسي.. عايش التقلبات السياسية، والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة إلى الاستنزاف وأكتور، من ثورة 19، إلى يوليو، وكامب ديفيد، ومن نوبل إلى الخنجر الغادر الذي استقر في رقبته. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة، واستطاع أن يصمد في وجه الحقد الأصولي، واستطاع طوال سنوات عمره التي قاربت قرنا من الزمان، وحتى بعد رحيله أيضا، أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزا عابرا للزمان".
مهما اختلفنا على تقييم الرواية، سيبقى محفوظ أب الرواية العربية، وسيبقى أي كتاب يُكتب عنه، وفيه، وعنه… موضوعًا يصلح للقراءة والنقاش في أي وقت.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق