رواية (رحلة الغرناطي - 2002 - دار التنوير) لربيع جابر، عمل مفاجئ وغير متوقع، يشكّل تجربة خاصة في مسيرة هذا الكاتب اللبناني المتفرّد. وهي تجربتي الثانية معه بعد (الاعترافات 2008). لدى جابر أسلوب مختلف عن السائد، وطريقة في السرد لا تشبه أحدًا. قد تبدو حبكة الرواية، للوهلة الأولى، بسيطة أو حتى قريبة من السذاجة، لكن طريقة تقديمها وسردها تأخذ منحًى مغايرًا كليًا، يجعل من السذاجة الظاهرة مدخلاً إلى تعقيد داخلي مدهش في نفس بطلنا.
تشبه الرواية في بنيتها العالم المعاصر؛ فكل فصل لا يتجاوز في العادة بضع صفحات، وكثير منها لا يزيد على صفحة واحدة. النص يتشكّل من رسائل يكتبها رجل تقترب حالته النفسية من الجنون الصوفي، أو "المالخوليا"، كما يسميها جابر في الفصول الأخيرة. بطل الرواية، محمد، ينطلق في رحلة طويلة وشاقة بحثًا عن أخيه، رحلة تقوده عبر مدن ودروب تتقاطع فيها الفانتازيا مع واقعية قاسية ومؤلمة.
يطرح جابر سؤالًا عميقًا، يكاد يبدو –من فرط بساطته– تافهًا أو مجرّدًا: "علام تضيع حياتك؟". محمد أضاع حياته في البحث عن أخيه، الذي دفعه ذات يوم إلى الخروج في عتمة الليل بحثًا عن خروف ضائع، دون أن يدرك أنه كان يدفعه نحو مصير التيه. يحمل محمد هذا الذنب كعبء ثقيل طوال حياته، ويظل يبحث عن أخيه، لعلّ العثور عليه يحرره من هذا الإثم. ليفاجأ أنه أضاع عمره، ويقول له الإسباني الذي قابله في إسبانيا بعد أن أمضى العمر يسير بين الطرقات بحثا عن أخيه :"لحظة حمق واحدة أفسدت كل حياتك".
جمال الرواية يكمن في قدرتها على التلاعب بالحدود الفاصلة بين الواقع والحلم. لا ندري أحيانًا إن كنا نعيش داخل خيال محمد أم في واقعه الفعلي. لكنه، في كل الأحوال، يقرر أن يصدق حلمه، وأن يسير خلف شكوكه، مؤمنًا أن أخاه لا يزال حيًّا، وأنه سيلقاه ذات يوم في مكان ما على هذه الأرض. هذا الإيمان العميق لدى البطل يلامس وجدان القارئ، ويدفعه بدوره للتساؤل: ما الذي نحمله نحن في أعماقنا؟ وما الذي نؤمن به إلى هذا الحد؟
(رحلة الغرناطي) تشبه أدب الرحلات، تأخذنا من غرناطة إلى بقاع متعددة في بلاد الأندلس والمغرب العربي، في تقاطع ذكي مع التاريخ والجغرافيا. كل ذلك يُروى بلغة رشيقة وعذبة، تؤكد مرة أخرى أن لربيع جابر أسلوبًا متفرّدًا ومكانة خاصة في السرد العربي الحديث.

