الثلاثاء، يوليو 08، 2025
الأحد، يونيو 08، 2025
رحلة الغرناطي - ربيع جابر
رواية (رحلة الغرناطي - 2002 - دار التنوير) لربيع جابر، عمل مفاجئ وغير متوقع، يشكّل تجربة خاصة في مسيرة هذا الكاتب اللبناني المتفرّد. وهي تجربتي الثانية معه بعد (الاعترافات 2008). لدى جابر أسلوب مختلف عن السائد، وطريقة في السرد لا تشبه أحدًا. قد تبدو حبكة الرواية، للوهلة الأولى، بسيطة أو حتى قريبة من السذاجة، لكن طريقة تقديمها وسردها تأخذ منحًى مغايرًا كليًا، يجعل من السذاجة الظاهرة مدخلاً إلى تعقيد داخلي مدهش في نفس بطلنا.
تشبه الرواية في بنيتها العالم المعاصر؛ فكل فصل لا يتجاوز في العادة بضع صفحات، وكثير منها لا يزيد على صفحة واحدة. النص يتشكّل من رسائل يكتبها رجل تقترب حالته النفسية من الجنون الصوفي، أو "المالخوليا"، كما يسميها جابر في الفصول الأخيرة. بطل الرواية، محمد، ينطلق في رحلة طويلة وشاقة بحثًا عن أخيه، رحلة تقوده عبر مدن ودروب تتقاطع فيها الفانتازيا مع واقعية قاسية ومؤلمة.
يطرح جابر سؤالًا عميقًا، يكاد يبدو –من فرط بساطته– تافهًا أو مجرّدًا: "علام تضيع حياتك؟". محمد أضاع حياته في البحث عن أخيه، الذي دفعه ذات يوم إلى الخروج في عتمة الليل بحثًا عن خروف ضائع، دون أن يدرك أنه كان يدفعه نحو مصير التيه. يحمل محمد هذا الذنب كعبء ثقيل طوال حياته، ويظل يبحث عن أخيه، لعلّ العثور عليه يحرره من هذا الإثم. ليفاجأ أنه أضاع عمره، ويقول له الإسباني الذي قابله في إسبانيا بعد أن أمضى العمر يسير بين الطرقات بحثا عن أخيه :"لحظة حمق واحدة أفسدت كل حياتك".
جمال الرواية يكمن في قدرتها على التلاعب بالحدود الفاصلة بين الواقع والحلم. لا ندري أحيانًا إن كنا نعيش داخل خيال محمد أم في واقعه الفعلي. لكنه، في كل الأحوال، يقرر أن يصدق حلمه، وأن يسير خلف شكوكه، مؤمنًا أن أخاه لا يزال حيًّا، وأنه سيلقاه ذات يوم في مكان ما على هذه الأرض. هذا الإيمان العميق لدى البطل يلامس وجدان القارئ، ويدفعه بدوره للتساؤل: ما الذي نحمله نحن في أعماقنا؟ وما الذي نؤمن به إلى هذا الحد؟
(رحلة الغرناطي) تشبه أدب الرحلات، تأخذنا من غرناطة إلى بقاع متعددة في بلاد الأندلس والمغرب العربي، في تقاطع ذكي مع التاريخ والجغرافيا. كل ذلك يُروى بلغة رشيقة وعذبة، تؤكد مرة أخرى أن لربيع جابر أسلوبًا متفرّدًا ومكانة خاصة في السرد العربي الحديث.
الأربعاء، يونيو 04، 2025
سيرة الرواية المحرمة – محمد شعير
ما أجمل الكتب التي تتحدث عن الكتب. وما أجمل أن نقرأ كتابًا يتناول سيرة واحدة من أكثر الروايات العربية إثارة للجدل: أولاد حارتنا لنجيب محفوظ.
في كتابه "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة"، يقدم لنا محمد شعير عملًا يرصد كواليس صناعة الرواية منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه محفوظ أنه يعمل عليها، مرورًا بنشرها في حلقات في صحيفة الأهرام، ثم نشرها لاحقًا في كتاب عن دار الآداب البيروتية.
هذا الكتاب لا يكتفي بقراءة الرواية الأدبية، بل يغوص في بانوراما المشهد السياسي والثقافي والديني في مصر وقتها: مثقفون يكتبون، شيوخ يعترضون، بعض القراء يشتكون، والأزهر يرفض رسميًا… حتى انتهت القصة بما يشبه “رضا” غير معلن بعد محاولة اغتيال محفوظ، والتي أعادت الرواية للأضواء.
اللافت في أسلوب شعير أنه يعتمد على أرشيف الصحف والمقابلات والوثائق، ليقدم ما يشبه رصدًا تاريخيًا للحراك الثقافي وحجم سلطة الدين على المشهد العام، وما تعرّض له محفوظ بسبب دفاعه عن الأدب النقدي بعيدًا عن التأويلات الدينية .
يقدم لنا شعير في 17 فصل نظرة على مجتمع أولاد حارتنا، المجتمع الذي أطلقت فيه هذه الرواية أيضا يستحق الرصد، من مثقفين وشيوخ وحتى مواطنين من القراء يكتبون لبريد الصحف والمجلات عن رد فعلهم تجاه فصول الرواية التي نشرت في حلقات في صحيفة الأهرام ، وبأسلوب صحفي ماتع يأخذنا شعير من أيدينا ليطلعنا على عالم ما قبل ولادة الرواية وخلالها وبعدها وما بينهم من مناوشات أدبية وصل لحد الحروب الجهرية ضد محفوظ.
أعتقد في بداية قرائتي لكتاب "أولاد حارتنا – سيرة الرواية المحرمة" أنه قراءة في كواليس الرواية الأشهر لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، لاكتشف بعد أول صفحات في الكتاب إنها أشبه بنظرة بانورامية على عالم (أولاد حارتنا) كما في الواقع، الكتاب أشبه برصد تاريخي لحالة الحراك الثقافي وقت إصدار الرواية، كما أن يرصد تعملق سلطة الدين على المشهد الثقافي حينها، و"استخدامه" للبطش بالمثقفين. الرواية كذلك ترصد مسيرة محفوظ في "حربه" من أجل نقد الرواية النقد الأدبي بعيدا عن المنظور الديني. ووسط أجواء هذا الصراع، بدت (أولاد حارتنا) كنزا سياسيا تتصارع عليه كل القوى السياسية، وتحاول توظيفه لمصلحتها الخاصة، صراع على المكشوف، تحالف بين اشيوخ والقوى السياسية اليمينة داخل السلطة الناصرية.
وكما ذكر شعير في آخر فصول روايته أنه :"عاش محفوظ، عصور سلاطين، وملوك، ورؤوساء، عاصر ثورات وانقلابات، وحروبا وطواعين، ومآسي.. عايش التقلبات السياسية، والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة إلى الاستنزاف وأكتور، من ثورة 19، إلى يوليو، وكامب ديفيد، ومن نوبل إلى الخنجر الغادر الذي استقر في رقبته. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة، واستطاع أن يصمد في وجه الحقد الأصولي، واستطاع طوال سنوات عمره التي قاربت قرنا من الزمان، وحتى بعد رحيله أيضا، أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزا عابرا للزمان".
مهما اختلفنا على تقييم الرواية، سيبقى محفوظ أب الرواية العربية، وسيبقى أي كتاب يُكتب عنه، وفيه، وعنه… موضوعًا يصلح للقراءة والنقاش في أي وقت.

